التلفزيون (قصة قصيرة) الجزء (2)
(2)
في اليوم التالي، كان الجو صافيا والشمس ساطعة تملأ أركان الشقة بالدفء غير المعتاد في بكين. غسلت وجهي ونظرت طويلا إلى الشجر التي تحركه النسمات الخريفية الناعمة، ثم حملت حقيبة الظهر وفتحت الباب. في نهاية الممر، رأيت مسنا يجر قدميه، كأنهما مربوطتان بأكياس من الرمل، هزيل بصورة تدعو للرثاء، كأنه كومة عظام موضوعة دون نظام في لباسه الأزرق الباهت، يتعكز على عصاة حديثة نوعا ما، لا تتناسب مع مظهره القديم للغاية. وبجواره امرأه أصغر منه عمرا، سمينة، و ترتدي هي الأخرى ملابس يعلوها الوسخ، وتعتمر قبعة صوفية مستديرة، وتشي قسمات وجهها بالعنف والتنمر.
مرت بضع ثوان وما زالا في نهاية الممر فحركتهما في بطء سلحفاة، بديا في ظلمة المبنى كلوحة حزينة لرسام يعيش في شانغهاي أيام الاحتلال البريطاني. عبرت بجوارهما بسرعة متحاشيا جسديهما، ولكن لم يمنع عني ذلك الرائحة المعتادة لكبار السن هنا؛ رائحة الأدوية الصينية التقليدية التي تُزكم الأنوف. هي أقرب إلى رائحة الأعشاب العطنة، تشعر بها في حلقك مباشرة، كأنها لا تعبر عبر أنفك، إنما تهبط مباشرة إلى حلقك فتصيبك لذعة حارقة.
أدارت العجوز مفتاح الباب، فهبت الرائحة ذاتها، رائحة الأدوية الصينية التقليدية متبوعة بعاصفة من الصهد والعطن ورائحة براز القطط. الشقة صغيرة ولكن كل ما فيها باهتا ومتسخا، الجدران حال لونها إلى الرمادي، وزحف الوسخ عليها لتتداخل ألوانها فلا تعرف هل هي رمادية أم قرمزية، أم قد يكون لون العفن المتكون بفعل الرطوبة والقذارة. الشقة لا يوجد بها موضع لقدم، تنتشر الكراكيب في كل مكان وتغطي الأرضيات والخزانات وجميع المساحات الفارغة، لا تنكشف سوى ممرات ضيقة جدا للسير عبر الغرف. لا تبدو كمكان يعيش فيه بشر، إنما مخزن أو مقلب للقمامة. لا ينقص المشهد إلا كلب ضال يتجول ويأكل الجيف.
ألقى العجوز بما تبقى من جسده على السرير الذي حال لون فراشه إلى الأسود، وغط في نوم عميق، بينما شغلت زوجته جهاز التليفزيون، وأدارت مؤشر الصوت إلى أعلى درجة، اقتربت بوجهها من الشاشة وكأنها تلقي التحية على صديق قديم. نظرت إلى جهاز التحكم برضاء ثم جلست على الكرسي الوثير المقابل للتلفزيون وأغمضت عينيها.
عدت من العمل، تمشيت قليلا في المساحات الخضراء المحيطة بالبناية، استنشق الهواء النظيف واستمع لزقزقات العصافير العائدة لأعشاشها. سمعت صوت التلفاز الخاص بالعجوزين من غرفة المصعد. كانت زوجتي قد عادت هي الأخرى فبادرتني بقولها اتسمع صوت التلفاز المرتفع؟
= نعم، أشعر بالألفة، يستمعون إلى نشرة الأخبار اسمعها بوضوح.
-هل علينا التحدث إليهما؟
= لا طبعا، إنهما عجوزان مريضان، رأيتهما صباح اليوم، سينامان مبكرا، حتما!
-حسنا
مرت ساعات، الساعة الآن الحادية عشر مساء، أتقلب في سريري يمينا ويسارا وما زال صوت التلفاز يصل إلى أعمق نقطة في دماغي، صوت صرخات بطل المسلسل الصيني الذي يجسد معاناة الصينين في أثناء الاحتلال الياباني يتردد في جنبات الشقة، وكأن البطل بعث من جديد ويُعذًب في مطبخنا.
الساعة الثانية صباحا، لا أستطيع النوم، قهقهات الأطفال وصراخهم في برنامج تليفزيون الواقع يملأ أركان الغرفة. تداخلت الأصوات مع أحلام يقظتي، فأنا نصف نائم نصف مستيقظ، شعرت كأني طائر خفيف أحلق فوق ساحة رياض أطفال.. ثم شعرت أنني تلبست جسد أسد يفترس غزالة، أعتقد أن العجوز كانت تشاهد فيلما وثائقيا عن السافانا الأفريقية فتداخلت الأصوات مع أحلامي لتصنع صورا مبعثرة لا يراها غيري…
الساعة الآن الخامسة صباحا، رأسي يدور، أشعر بجسدي مقلوبا، كأني معلق من ساقي كخفاش، وعيناي تبرزان من محجريهما، واللعاب يسيل من جانب فمي… النشرة مرة أخرى، مذيعة نشرة الأحوال الجوية تقول بصوت عذب إن اليوم مشمس والرياح شديدة، أسمع كل حركة بوضوح على الرغم من أنني لففت ذراعي حول أذني ووضعت وسادتين فوق رأسي. لكن الصوت قد يبعث توت عنخ آمون من تابوته، يخرق طبلة الأذن كعيار ناري مصوب تجاهك من مسافة متر واحد.
ذهبت إلى العمل في اليوم التالي وكأني زبون دائم لدى بابلو سكوبار. عينان حمراوان، وكتفان مقوسان وظهر محني. لا أسمع من يتحدث إلى ولا أحد يفهم ما أقوله، كأنني ما زلت أكمل الحلم. أنظر إلى الكومبيوتر ببلاهة طالب يجلس في لجنة امتحان بعدما قرأ “ملخصات” المادة قبل الامتحان بساعة.
عدت إلى البيت أرى الناس يمارسون رياضة (التاي تشي)، وكأنهم أشباحا، لا أرى الوجوه، فقط أتابع حركة الأجساد الانسيابية، ابتسمت في راحة ممنيا نفسي بنوم هاديء الليلة بعد يوم مر كحلم، وأحلام مرت كيوم، تداخل الواقع بالخيال وصنع لوحة لا يرسمها إلا مدمن هيروين “شدّ” جرعته الشهرية في ليلة واحدة. الساعة الأن الثامنة مساء، الهدوء يعم البيت، زفرت مرتاحا، فلا تلفاز اليوم ولا برامج أطفال. انزلقت تحت الغطاء أنعم بالدفء والهدوء.
استسلمت لنوم عميق كأني لم أنم منذ شهور، وحلمت أنني في جزر المالديف أنظر إلى فاتنة أوروبية، عيناها كالسماء وصدرها كالبلور، نظرت طويلا إلى عينيها الزرقاء كلون البحر، اقتربت منها حتى التصقت بفخذها، اخترقت أنفي رائحة عطرها النفّاذ كالبرتقال، مررت بشفتي على رقبتها الناعمة الملساء أرتشفها، ثم صعدت ببطء إلى شفتيها الحمراوين كحبات الفراولة. لعقت أرنبة أنفها فخارت قواها وأطلقت أهة أحرقتني سخونتها، كانت مثل مدينة تهدمت حصونها بفعل الهجمات المتتالية، وتفتح أبوابها متعطشة للاقتحام.
خلعنا ما تبقى مما سترنا، التأوهات تخترق أذني كطبول حرب من نوع خاص، فهممت بإرسال جنودي لاقتحام أبوابها المستسلمة المتعطشة، ولكن وفجأة أختفى الشاطيء، وتبددت الرمال من تحت قدمي وأُلقيت في نفق مظلم. أنا الآن مستلق على قضيب قطار، والقطار يقترب مني، سيدهسني ويصنع من جسمي عصير بني آدم، لا أستطيع الحركة، أشعر ببرودة المعدن أسفل رقبتي، وخشونة الحبال التي تقيدني، تعتصر ساعدي الذي بدأ ينزف، أحاول تخليص نفسي لكني مشلول تماما و عاجز عن تحريك أي خلية في جسدي، القطار على بعد أمتار مني، حدقتي تتسع، أرى القطار بوضوح شديد، هذه أول مرة أرى القطار من هذا المنظور السفلي، له وجه مدبب قبيح، رمادي، متسخ، يعلوه الصدأ في عدة مواضع. صرخت، أنقذوني، أنقذوني، أنقذوني!