أنت لست موجودا بالسيستم يا علي "شيان شانغ"
السيستم واقع، هذه العبارة السحرية التي تتردد في أرجاء جميع المصالح الحكومية والبنوك وتمتد أحيانا لمحلات السوبر ماركت والمستشفيات. أصبحت جزءا أصيلا من حياة المصريين اليومية. ولأن المصري معروف “بجبروته” وقدرته الخارقة على التأقلم مع البيئة المحيطة، فقد جلبت تلك العادة معي إلى الصين، وورطت المليون أجنبي الذين يعيشون في المملكة الوسطى.
دعني أحكي لك الحكاية من البداية، اللغة الصينية تتألف من رموز، والاسماء الصينية تتكون من لقب+ اسم -عكس الأسماء العربية التي تبدأ بالاسم ثم اللقب- وأسمائهم عبارة عن رمزين إلى أربعة رموز ولا تزيد على ذلك بأمر القانون، إلا في حالات قليلة يسمح فيها بأن يتجاوز عدد رموز هذا الحاجز، وذلك إذا كان الشخص ينتمي لأحد الأقليات العرقية.
لذلك، يواجه الأجنبي مشكلة كبيرة هنا في المصالح الحكومية والمستشفيات وفي أثناء أي إجراء يتطلب إدخال البيانات إلكترونيا، وهي كثيرة، لأن عصر التعاملات الورقية، في البلد التي اخترعت الورق، قد انتهى منذ عقد على الأقل، وأغلب التعاملات “لا ورقية”. يزيد الأمر تعقيدا إذا كنت من بلد مثل مصر، تُكتب أسماء عائلتك واللي جابوها وناقص يكتبوا اسماء الجيران في خانة الاسم.
تجلس أمام الموظف ثم تبدأ المسرحية الهزلية الحزينة، يعرف الأجانب هنا نظرة الحيرة التي تعلو أوجه الموظفين حينما يروا اسما بهذا الطول. فذلك الموظف الغلبان منذ أن خلقه الله وعرف القراءة لا يرى سوى أسماءً لا تتجاوز الأربع رموز، وفي أفضل الأحوال يرى أسماءً غربية في التلفزيون وعلى الانترنت تتألف من كلمتين، هما الاسم واللقب على غرار توم كروز، نيكولاس كايج، كريستاينو رونالدو وهكذا.
بعد التفحص بعناية لمدة تزيد على العشر دقائق، وسؤال مديريه للتأكد من كنه ذلك الاسم العجيب، يعود إليّ بالسؤال المنطقي التالي وهو أين الاسم وأين اللقب يا سيد؟ تشير له -بصبر لأنك اعتدت ذلك طبعا- أن الاسم الأول هو “الاسم” وسلسلة الأسماء التالية هي اللقب، أو العكس حسب مزاجك اليوم، فليس لدينا في جواز السفر ما يشير حقا إلى الفرق بين الاسم واللقب. يهرش الموظف رأسه، ويقول الكلمة الصينية التي ستتكرر أكثر من 100 مرة خلال هذه الجلسة: “أوووه، هو كذلك” دونغلا (فهمت).
يحاول الموظف الغلبان جاهدا إدخال اسمك المكون من 25 حرفا إذا كان محظوظا، وسيكون أتعس حظا إذا كان اسمك مركبا أو اسمك واسم أبوك وجدك يبدأون بعبد … يضرب الموظف المفاتيح بصبر كبير يفقده بعد الحرف رقم 15، ويتصبب عرقه عند الحرف رقم 20، ويلعن الطائرة التي جلبتك الى هذه البلد عند الحرف قبل الأخير. أواه، ياله من عمل شاق، 25 حرفا، يعود بظهره إلى الوراء، ينظر للحروف المرصوصة بجانب بعضها برضا، ويقول لنفسه: أن بارع حقا! سأخبر أقراني الليلة عن هذا الاسم العجيب بينما نحتسي الجعة ونلتهم أسياخ كباب شينجيانغ اللذيذة.
يرفع يده في الهواء لضغط زر “إنتر” بقوة من يرمي جمرات الحج، ليهشم رأس ذلك الاسم الذي أتعبه. تعلو يده ببطء، يلوح بإصبعه السبابة في وضع الهبوط، وعلامات السعادة والانتصار والانتشاء على وجهه. تتسع ابتسامته لتصل إلى أذنيه، ثم وبوووووووووفوم، يضغط زر “الإنتر” اللعين، ولكن رسالة ” أيرور” تغطي الشاشة بلون أحمر!! يتدلى فكه الأسفل من الدهشة، ماذا يحدث!! يضرب مرات ومرات على زر الإنتر، لا لا لا ، مستحيل، إنها 25 حرفا إيها الحاسوب اللعين، فلتدعني أمر للصفحة التالية وإلا كسرت دماغك، يتصبب الموظف عرقا، يلتقط منديلا، يمسح جبينه ويشرب بعض الماء ليحاول تهدئة نفسه. وأنا بالطبع أجلس في هدوء أعبث بشاشة هاتفي واسترق النظر دون التدخل بالنصيحة أو السؤال أو التعجب أو التأفف، لأنني أعلم السيناريو الذي يتكرر منذ أكثر من 14 عاما قضيتها في الصين. يُجري الموظف العديد من الاتصالات ويسأل مديريه مرات ومرات، ومديريه يسألون إدارة الفرع الرئيسي أو مصلحة الهجرة عن ذلك الاسم العجيب وكيفية التعامل معه.
سيصلون في النهاية إلى بعض الحلول التوفيقية الوسطية، كأن يكتبوا اسمك الثلاثي أو أول عشرة أحرف من اسمك بصرف النظر إذا كان ذلك يمثل اسما كاملا أم لا، فقد تجد اسمك على سبيل المثال: محمد عبد السمي بدون الحرف الأخير لاسم سمي(ع). أو أن يكتب اسمك بدون مسافات فيكون مثلا محمدعبدالسميعمحد. وإذا كنت سيء الحظ، أو في مؤسسة حكومية لم تتعامل مع الأجانب من قبل، فسيقول لك العبارة الخالدة والتي ستسمعها مرات ومرات: آسف يا علي شيان شانغ ( تعني سيد أو أستاذ) لا يمكننا إدخال بياناتك إلى السيستم، فأنت لست موجودا بالسيستم من الأساس.
فلنحمد الله جميعا على عبارة ” السيستم واقع” التي نسمعها في مصر، فعلى الأقل هناك سيستم وأنت موجود به، إلا أنه “واقع” لبعض الوقت وسيعود بالسلامة. أما هنا، فأنت لست موجودا بالسيستم يا صاحب الاسم الطويل!