التلفزيون (قصة قصيرة) الجزء (1)
(1)
الصينيون معمرون، يأكلون الكثير من الخضراوات والقليل من اللحوم، وأغلبهم يمارسون الرياضة يوميا ولو في صورتها البسيطة كالتمشية أو صعود الدرج. إذا كنت سعيد الحظ وصادفت أحد المعمرين اللطفاء، فستشعر بألفة غامرة، وكأن لك قريب يهتم لأمرك، وقد تترك لديه مفتاح شقتك ليعتني بها في فترات غيابك، وبعضهم قد يرعى كلبك الأليف أو حتى أطفالك. ولكن مهلا، بعض هؤلاء العجائز يكونون غريبي الأطوار، بعضهم كمن فقد عقله، يتشاجر لأتفه الأسباب، ويتشبث برأيه مثل طفل، مما يثير كثير من المتاعب في بعض الأحيان.
رزقني الله بجيران مثيرون للمتاعب، أطاروا النوم من عيني لمدة تزيد على ثلاث سنوات. ولكن ما حدث بعد السنوات الثلاث كان أشد قسوة من الأرق الذي سبب لي هالات سوداء أشبه بهالات دبّ الباندا. دعني أقص عليك الحكاية من البداية، ففي بكين حيث أعيش، الإيجارات مرتفعة للغاية، والبنايات التي تقع بالقرب من المدارس شديدة القدم ومتهالكة برغم ارتفاع إيجاراتها. يجبرك ذلك الوضع على أن ترضى بالعيش في بيوت ترجع لما بعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية بقليل، أو أن تعيش بعيدا عن مدرسة أبنائك، فتستمتع بالعيش في مجمعات سكنية حديثة الطراز وتتوافر بها سبل الراحة، ولكن في مقابل ذلك ستدفع الثمن من وقتك الذي تقضيه كل يوم في زحام المدينة ذهابا وإيابا.
كنت من المحظوظين القلائل في المدينة، إذ كانت المدرسة التي تذهب إليها ابنتي تقع في حيّ قريب من مقر عملي، ويوجد بالقرب من المدرسة منطقة سكنية حديثة في قلب المدينة، بها مساحات خضراء واسعة، كان ذلك أشبه بالعثور على محل لبيع المايوهات البكيني في القطب الشمالي، أمر لا يتكرر في هذه المدينة ذات الـ25 مليون نسمة.
ذهبت لأحد الوكلاء العقاريين المنتشرين في شوارع المدينة وحول المجمعات السكنية الكبيرة، لم أكن أنا وحدي مَن يبحث عن شقة داخل هذا المجمع الفريد من نوعه، لذلك وضعني المندوب على قائمة انتظار طويلة ذكرتني بطابور التموين الذي كنت أقف فيه مع أمي وأنا صغير للحصول على ثلاث زجاجات من الزيت وبضع أكياس من السكر والأرز. حمدت الله على نعمة وجود أماكن فارغة على قوائم الانتظار ثم لممت أوراقي ومضيت.
لحسن طالعي، وقد يكون لسوء طالعي، أنني تلقيت اتصالا من موظف شركة الاستئجار، وقال لي أن هناك شقة فارغة، ويمكن أن نحدد موعد لرؤيتها. رفعت الهاتف من على أذني ونظرت السماعة بحب، في مشهد أقرب لمسلسلات رمضان الرخيصة، كدت أسجد لله فرحا لهذا الخبر الجلل، فبعض الناس يقضون شهورا على قوائم الانتظار ولا ينعمون بمثل هذه الفرصة.
حددنا موعدا لمعاينة الشقة، كانت شقة صغيرة كما توقعت، 60 مترا مربعا، ولكنها تطل على مساحات خضراء واسعة، والشمس تدخلها من جميع النواحي. وقعت في غرامها من النظرة الأولى، فهذه طريقتي المثلى للاختيار، انطباع النظرة الأولى. اتفقنا على سعر الإيجار الذي التهم 70% من مرتبي الشهري، ولكن لا مناص، هكذا هي الحياة في بكين، تتفحص حسابك البنكي يوم تحويل المرتب فتشعر أنك نجيب ساويرس، ولكن بعد دفع الإيجار ومصاريف المدرسة والمرافق، تنظر مرة أخرى فتصبح الأرقام سالبة وتتحول إلى سائق نجيب ساويرس في أحسن الأحوال. فأغلب من يعيشون في بكين يعملون من أجل ثلاث؛ الإيجار، المدرسة، وأقساط البنوك.
برغم كل ذلك كنّا سعداء بالانتقال إلى هذا المكان المنسق الجميل، يوجد أماكن للعب الأطفال وصفّ السيارات وأيضا لن نتكبد عناء الزحام اليومي. شعرت أنني فوق السحاب، وأنني بدأت أنعم بجودة حياة عالية، أصبح طعم الأكل أجمل، والقهوة أكثر نعومة، حتى تلوث الهواء في بكين أصبح كرائحة عطر كريستيان ديور.
دفعت تقريبا كل ما أملك من المال لاقتناص هذه الفرصة، ووقعت عقدا مجحفا في شروطه،لكن كله يهون، ففي أثناء توقيع العقد داعبت الخيالات عقلي مذكرة إياه بالشجر، والحياة الرغدة التي سأنعم بها بعد قليل، إنها الجنة يا صديقي والجنة لا تأتي مجانا. نقلت “كراكيبي”، وبعد ماراثون من تعبئة الحقائب في الشقة القديمة، هناك ماراثون أخر لفض هذه الحقائب وإعادة ترتيبها في الشقة الجديدة. لن يفهم هذه المعاناة إلا مَن اعتاد التنقل، فالأمر قد يستغرق أسبوعا على الأقل لإعادة ترتيب الأشياء. ما زلت أتذكر أول ليلة أقضيها في هذه الشقة الصغير النظيفة شديدة التنظيم، والتي تطل على كل هذا الجمال الأخضر. كان نوما هادئا دافئا، ولكنه على الأرجح كان اليوم الوحيد الذي سأنعم فيه بهذا النوم الهاديء في السنوات القادمة.